من البديهي، أنه عندما يمرض شخص ما، يتجه مباشرة إلى الطبيب، ليشخص حالته المرضية، فيصف له الدواء المناسب لعلته.
إلا أنه في مجتمعاتنا، هذه القاعدة يضرب بها عرض الحائط.
فإرتفاع تكلفة الفحوصات الطبية، وتدني المستوى المعيشي كان أحد أكبر الاسباب التي أدت إلى زيادة إنتشار هذه الظاهرة، مع النقص الكبير في الوعي و الثقافة الصّحية التي يعانيها المجتمع، إضافة إلى نقص الحملات التحسيسية بأخطار التداوي الذاتي، و كذا نقص الآليات القانونية و التنظيمية التي تمنع بيع الكثير من أنواع الأدوية دون وصفة طبية.
زد إلى ذلك إنتشار المعلومات المغلوطة والوصفات المزيفة عبر وسائل التواصل الإجتماعي التي أدت إلي إنتشارها في أوساط المجتمع، رغم ما قد يترتّب عنها من مخاطر صّحية عاجلة و مؤجلة.
حيث تؤكد منظمة الصّحة العالمية في تقاريرها إلى أن
٪25 إلى35% من الأمراض الخطيرة التي تصيب الإنسان تنتج عن مضاعفات جانبية للأدوية الكيميائية.
و من خلال استفسارنا عن الموضوع لدى بعض الصيادلة الخواص بمدينة القليعة.
أخبرنا السيد: م.د (صيدلي)، أن حوالي 40% من زبائنه اليوميين، يقتنون الأدوية بدون وصفة طبية، في إطار التداوي أو الإستطباب الذاتي.
و عن سؤالنا حول أصناف الأدوية التي تتصدر قائمة المشتريات، أضاف محدثنا أن "الباراسيتامول" حققت الريادة، و زاد الطلب عليها زيادة مطردة، لكن الإشكال ليس في كيفية اقتنائها بل في كيفية و كمية استخدامها و التي تعود الى إستشارة الطبيب وحده، تليها مضادات الإلتهاب anti inflammatoires في المرتبة الثانية، كما احتلت المضادات الحيوية antibiotiques المرتبة الثالثة في قائمة الأدوية الأكثر إقتناءا.
و ختم محدثنا حديثه، أنه في إطار المساهمة في الحد من هذه الظاهرة، قرر في وقت سابق عدم بيع الأدوية بدون وصفة طبية للزبائن، الأمر الذي عرضه إلى تذمر واسع وسط زبائنه المعتادين، ما أدى به مرغما للعودة للطريقة السابقة لتلبية طلبات زبائنه، رغم وجود تعليمات صريحة من الهيئات الوصية بمنع بيع الأدوية دون وصفة طبية، إلا أن الواقع عكس ذلك.
و تزامن حديثنا مع السيد :"م.د" (صيدلي)، دخول أحد الزبائن لإقتناء علبة روفاميسين rovamicyne من المضادات الحيوية، بدون وصفة طبية، بالرغم من ابداء الصيدلي نصيحة له بضرورة استشارة طبيب أسنان أو طبيب عام، إلا أنه أصر على الإقتناء.
فتقربنا منه و أطلعنا على رأيه دون تردد، مرجعا لجوء المواطن للتداوي الذاتي إلى إرتفاع تكاليف الفحوصات الطبية حسب قوله: " حيث بلغت تكلفة فحص طبيب أسنان 1500.00دج، لمدة لا تتجاوز ال10دقائق من الفحص، و تبلغ تكلفة فحص طبيب عام 1000.00دج، و تتجاوز تكلفة الفحص لدى طبيب مختص ال2000.00دج، الأمر الذي صعب على العديد من المواطنين التوفيق بين استشارة الطبيب وإقتناء الادوية و التي قد تصل في بعض الأحيان إلى المليون سنتيم، لمن لا يملكون بطاقة الشفاء".
من جهة أخرى و في سبيل معرفة الأخطار الحقيقية لهذه الظاهرة، تواصلنا مع السيدة: "غ.ل" دكتور في الطب العام، و التي استقبلتنا في عيادتها، و أكدت لنا أن التداوي الذاتي "L'automédication" أصبح مشكل العصر وأن نسبة كبيرة من الأمراض سببها هذه الظاهرة.
واسترسلت محدثتنا أن دواء "الباراسيتامول" الأكثر طلبت و استهلاكا وانواعه: دوليبران، سابرامول، ايفيرالغان،وبارالغون، دافالغون، برودافالغان و انواعه، بانادول وانواعه.... الخ
هذا الأخير يؤخذ بدون استشارة الطبيب وأصبح عاديا ومتداولا و يتحصل عليه بدون وصفة طبية، بالرغم من أنه يتسبب في أخطار كبيرة وأمراض مزمنة خطيرة، اذا لم يؤخذ بالطريقة الصحيحة، وأضراره تلف الكبد بصفة دائمة.
أما مضادات الإلتهاب anti inflammatoires
بكل انواعها : كلوفينال، ديكلوفينال، ابراناكس، فوتراكس، رابيدوس، صابوفان، الجيفان، ادفيل، كزيدول،.فولتاران،نوروفان.... الخ
فتناولها دون استشارة طبية، و بصفة عشوائية، خطير جدا على الصحة عامة، و خاصة على الأعراض التي يريد الشخص التخلص منها.
فإذا كان الشخص مصاب بمرض مخفي هذه الأدوية تهيج المرض وتجعله ينتشر بسرعة.
كما قد تكون مسؤولة عن نزيف داخلي غير مرئي على مستوى الأمعاء، أو تقرح المعدة وتحدث نزيفا حادا وألما رهيبا على مستواها.
أما على مستوى الفم والفك، فمن يتناولها يكون بقصد تخفيف ألم الأسنان، لكن يمكن لإنتفاخ صغير، أن يلتهب ضعف العادة ويشكل أعراضا ثانوية قد تؤدي إلى تشوه الوجه وإحداث شامة دائمة على مستوى الخد أو الرقبة.
أما بحديثنا عن المضادات الحيوية antibiotiques
فدقت الدكتورة في الطب العام، ناقوس الخطر في هذا النوع من الأدوية.
حيث أن التناول العشوائي أو عدم إحترام المدة اللازمة لأخذ مثل هذه الأدوية يمكن أن تؤدي إلى تشكل مقاومة ذاتية للبكتيريا ضد هذه المضادات ما يجعل التداوي صعبا بعد ذلك أو حتى مستحيلا، ما يؤدي إلى عواقب وخيمة أو حتى الوفاة بمضاعفات التعفن بالبكتيريات المقاومة.
هذه الحقائق العلمية التي يدركها الجميع في الجزائر من أطباء، صيادلة و حتى المرضى، لم تحد ّمن الإنتشار المتزايد لعدد الأشخاص الذين يستغنون عن خدمات الطبيب، لذلك فلابد من تكثيف الجهود و تظافرها من قبل الجميع.
و لابد أن تعمل المصالح الصحية المختصة، موازاة مع الأطباء و الصيادلة و ممتهني الصحة، و كل فعاليات المجتمع المدني على زيادة الوعي الصحي للمواطن.
فمهما كانت الزيارة شاقة و مكلفة أو الانتظار في القاعات طويلا، لابد من تشخيص صحيح وأخذ أدوية مناسبة تحت مسؤولية المختصين من الأطباء، للشفاء بطريقة صحيحة وصحية.
فمتى ننتهي من الإستخفاف برأس المال الوحيد للفرد؟
✍رضا حمادوش
