فاطمة سهلي طنجة
ونحن نتلقى خبر اغتيال الزميلة الصحفية شيرين أبو عاقلة، مراسلة قناة الجزيرة في فلسطين. برصاص القوات الإسرائيلية، سنودع صورة شيرين التي انطبعت في خيالنا منذ سنوات بعيدة، حيث كانت تضعنا في قلب الأحداث، تجاهد لنقل الصورة الحية، تذكّرنا بفلسطين المحتلة، وجرائم الكيان الصهيوني، تفضح توغلاتهم في الديار، تجردهم من أكاذيبهم، ولذلك لم يكن موتها صدفة، أبدًا فالصحفي عين الأمة وضميرها، يخيفهم أكثر من الجيوش، لكن فات عليهم أن الكاميرا التي طالما أرعبتهم وعرّتهم أمام الشاشات، كانت إلى جانبها، توثق تفاصيل موتها المؤلمة، وتضع الإنسانية أمام جرائمهم البشعة التي يصعب إنكارها، أو نسيانها لسنين طويلة عاشت شيرين أبو عاقلة في ذاكرتنا، بمشهد حضورها اللافت أمام الكاميرا، دائمًا في الخطوط الأمامية، أبدًا لا تخشى الموت، كثيرًا ما تغامر بروحها لأجل الحقيقة، وهي التي اشتهرت بالقول إنها تغلّبت على خوفها في اللحظات الصعبة، واختارت الصحافة كي تكون قريبة من الإنسان، وأنها قادرة على إيصال صوتها إلى العالم، ولذلك باغتها الموت ولم تباغتها الرصاصة، لأن الرصاص ظل ينهمر حولها باستمرار لإسكاتها، دون أن تعرف أنها المرة الأخيرة، وقد رأينا كيف أن قوات الاحتلال تعمّدت استهداف شيرين في مخيم جنين مع سبق الإصرار والترصد، فتجاهلت عن قصد سترة الصحافة، وصوّبت الرصاصة أسفل الأذن في منطقة لا تغطيها الخوذة التي كانت ترتديها، فتعمدت قتلها ونحن وككل الشعوب كنا وما زلنا نحب فلسطين، أولى القبلتين وثالث الحرمين، ونسمع بالقتل هنالك، وكيف أن الأعداء جاسوا الديار، حفظنا أشعار درويش وأغاني فيروز وعرفنا رسومات ناجي العلي،حتى ولدت شيرين أبو عاقلة ورفاقها، ورأينا بأم أعيننا جرائم قوات الاحتلال الصهيوني رأى العين، وهي تنتهك الأعراض وتسفك الدماء وتعتقل النساء والأطفال وتقتحم المقدسات، رأينا مقتل الطفل محمد الدرة خلف والده، فلم يغادرنا ذلك المشهد، ورأينا أيضًا أشلاء مقعد الشهيد أحمد يس وهو مبعثر في الطريق إلى المسجد، بصواريخ جبانة ألقيت على جسد الشيخ المقعد، رأينا عبرها كل شيء، ومن رأى ليس كمن سمع، كما لو أن شيرين قد أفضت إلى ربها بعد أن انتقلت بنا من زمان التعتيم والحكاوي إلى زمان النقل المباشر، ولم يعد لديها ما تقوله وتضيفه لسجل الجرائم الإسرائيلية، أكثر من ذلك و من العجب العجاب أن إسرائيل سارعت للمطالبة بتحقيق مشترك للتعمية، وذر الرماد في العيون، هي من قتلت شيرين بدم بارد، وتريد الان أن تمشي في جنازتها، لأنه هو هذا رأس جبل الجليد، ولكن ما تحت الجبل أن إسرائيل تخشى أن يفجّر موت أبو عاقلة انتفاضة جديدة، بيد أن مشهد قنص شهيدة الصحافة فجّر فينا الوعي، وبدأ الناس ينتبهون إلى ما يجري هنالك، من قتل وتهجير ودمار، فلم يكتفوا بقنصها وإنما أطلقوا الرصاص بكثافة لمنع وصول المسعفين إليها، وعزلوا زملاء شيرين الذين كانوا على مقربة منها، يحاولون دون فائدة مساعدة زميلتهم وهي راقدة بين الحياة والموت. لو كان الموت رائعًا لكان هو موت شيرين وهي تؤدي رسالتها في جسارة نادرة، تضعنا في الصورة، كما لو أننا تحت الحصار، حيث اقتحام مخيم جنين، وتوحش قوات الاحتلال، التي تريد أن تغطي على جرائم أخرى مروعة، وتهلك الحرث والنسل، وتقطع دابر المقاومة الفلسطينية، وتعطل البث الحي، حتى لا نراهم، لكننا رأينا كل شيء بصوت شيرين وعيونها، وإلى جانبها يرقد آلاف الشهداء، الذي أخلصوا لمهنتهم، ويحبون بلادهم. إن كان ثمة دلالة لرحيل شيرين، وهي تواجه القصف الإسرائيلي بثبات، أمام العيون، فهي عدالة القضية الفلسطينية، والحقيقة التي ترجمها موت شيرين أبو عاقلة، التي سوف تظل قمرًا يتوهج في سماء الإعلام، بصوتها وشجاعتها ومواقفها الرائعة النبيلة
